6 يناير 2010
خلال عملية الأنسحاب الأسرائيلى أحادى الجانب من غزة ، لخص دوف فايسجلاس مدير ديوان شارون الدوافع والأهداف الكامنة خلف هذه الخطة بأنها " توفير كمية الفورمالين المطلوبة حتى لا تحدث عملية سياسية مع الفلسطينيين". فالعملية السياسية تعني مجموعة من المفاهيم والالتزامات على رأسها دولة فلسطينية مع كل المخاطر الأمنية التي ينطوي عليها ذلك، وإخلاء مستوطنات وإعادة لاجئين وتقسيم للقدس. بينما كان البرنامج الشاروني لا يتضمن أكثر من حكم ذاتي للفلسطينيين بمسمى دولة على قطاع غزة و42% من الضفة الغربية من دون القدس ولا عودة اللاجئين.
وبعد مرور ما يقارب من خمسة سنوات ، عند قراءة وتحليل مستجدات الأوضاع على الساحة الفلسطينية ، نجد أن هذه الخطة قد احرزت نجاح منقطع النظير. لقد انصبت كل الجهود على تحقيق مصالحة وطنية ما بين حركتى فتح وحماس وأنهاء الحصار المفروض على غزة . وبعدما غابت القيادات الفلسطينية المخضرمة عن الساحة، ولم تعد هناك قضية واضحة المطالب. فقد تزامنت بداية تنفيذ هذه الخطة مع موت أو إغتيال القيادات الفلسطينية ، فمازالت علامات الأستفهام تحوم حول وفاة الرئيس الفلسطينى ياسر عرفات وكذلك إغتيال كلا من الشيخ أحمد ياسين والرنتيسى . ويظهر الآن بوضوح أن جميع الأطراف الفلسطينية والعربية بدون إستثناء قد انزلقت فى تنفيذ أدوارها المكتوبة طبقا للسيناريو الأسرائيلى .
الخيانة أنه التفسير الأزلى المرتبط بالقضية الفلسطينية، لكن لماذا لم نتطرق أبداً لدراسة الجانبين، الجانب العربى والذى تتسم تحركاته برد الفعل المتوقع، والجانب الأسرائيلى والذى يتسم بالعمل طبقا لمخططات مبنية على دراسة جميع الأطراف فى المنطقة وتحليل ردود أفعالها ووضع السيناريوهات المستقبلية لأحتواء ردود الأفعال الكلامية العربية وبل استغلالها لتحقيق مصالحه. فعلى مدى 61 عاما لم تخيب توقعات الساسة الأسرائيليين ، ربما كان الخطأ الوحيد حول نسبة توقعات النجاح لخططهم، ربما كانوا يتوقعون نسبة أقل مما تحققت على أرض الواقع.
حينما نتأمل ما حدث بعد الأعلان عن خطة الأنسحاب الإسرائيلى أحادى الجانب ، منذ اللحظة الأولى ، أنطلقت الأبواق العربية تمجد لأنتصار وهمى للمقاومة، وشربت الأمة العربية من المحيط إلى الخليج من كأس الغرور بالقوة الزائفة، و كانت الأتهامات بالتخاذل والعمالة والخيانة أو على أحسن تقدير الأنتماء إلى فصيل منافس تلاحق كل من حاول إجراء تقييم موضوعى لهذه الخطة أو تطبيق المعايير الموضوعية لتقييم ما أنجزته المقاومة الفلسطينية أو حتى تقديم قراءة مغايرة للأحداث. بينما كانت جماهير المحيط والخليج تحتشد لمشاهدة احتفالات النصر، كانت الترتيبات تعد لتنفيذ الخطوة الثانية من الخطة وهى الانتخابات الفلسطينية.
فى بداية 2006 ، هل خابت التوقعات الإسرائيلية بالنسبة للأنتخابات الفلسطينية؟ أى مراقب أو محلل مبتدئ للأوضاع الفلسطينية كان لابد أن يتوقع فوز حماس. فقد كان الأحباط من السلطة الفلسطينية يسود الشارع الفلسطينى ، لم يعم السلام ما بين الفلسطينيين والأسرائيليين، الأجتياحات الأسرائيلية المتكررة للمدن والقرى الفلسطينية ، وانتشار الإتهامات بالفساد الموجهة لعناصر فتح، بالأضافة إلى إلصاق الفضل للأنسحاب الأسرائيلى من غزة لحركة حماس . كان من المنطقى أن ينتخب رجل الشارع الفلسطينى قائمة حماس نكاية لفساد وتخبط القيادات الفتحاوية.
ومنذ لحظة إعلان نتيجة الأنتخابات، بدأت هوة الخلاف تتسع ما بين فتح وحماس حول إتمام العملية السياسية مع إسرائيل، وكان هذا الفورمالين المطلوب لتنفيذ خطة شارون، لقد غير الجلاد قواعد اللعبة، وبكى متظاهراً أنه هو الضحية، فبدلاً من إلقاء اللوم على إسرائيل ، وقعت حماس فى الفخ الإسرائيلى بعدما طالبتها تل أبيب بالأعتراف بإسرائيل والأتفاقيات الموقعة، كان الاعتراف أو الرفض يعنى الخسارة لحماس، خسارة المعونات الأجنبية أو الشارع الفلسطينى.. لن أخوض كثيرأ فى هذه التفاصيل التى يعرفها الجميع. ولكن رفض حماس للأعتراف بإسرائيل ، جعل الموقف يبدو كما لو أن السلطة الفلسطينية المنتخبة تتذرع من إلتزاماتها مع الجانب الأسرائيلى وتعرقل استمرار المفاوضات ما بين الطرفين، وتصاعدت الأتهامات الإسرائيلية بعدم وجود شريك فلسطينى قادر على المشاركة فى تحقيق السلام . وأصبح الخلاف ما بين حماس وفتح ومحاولات المصالحة ما بين الطرفين والأنفلات الأمنى وتشكيل حكومة وحدة وطنية و قطع المعونات الدولية عن السلطة الفلسطينية هى محاور اهتمام القيادات الفلسطينية والعربية. وتراجعت قضايا القدس واللاجئين والجدار من على الساحة .
فى يونيو 2007 ، كان انقلاب حماس فى غزة مثل نكبة ثانية اصابت القضية الفلسطينية، فعلى مدى ستون عاما تحول الصراع العربى – الأسرائيلى إلى صراع فلسطينى – إسرائيلى ثم إلى صراع فلسطينى – فلسطينى. لتنكمش دوائر الدعم والمساندة إلى أضيق نطاق. لم يكن الأنسحاب الأسرائيلى ونجاح حماس فى الأنتخابات التشريعية و إستيلاء حماس على غزة فقط فرصة للتهرب إسرائيل من مسئولياتها تجاه القطاع كدولة أحتلال ولكن ايضا فرصة ذهبية للتجميد الوضع كما هو عليه، فالدولة الفلسطينية وتقسيم القدس وعودة اللاجئين أشبه بالمستحيلات فى السياسة الشارونية. فى الوقت ذاته ، يدرك الإسرائيليون جيداً أن دولتهم قد نشأت بفضل التعاطف الغربى مع ضحايا المحرقة، وفى جميع الأحوال لا ترغب إسرائيل فى خسارة هذا التعاطف الذى يعنى خسارة دعم غربى . فالمحرقة من ركائز السياسة الأسرائيلية، وهناك دائما تهويل من قدرات الجيران العرب ورغبتهم فى تدمير إسرائيل وهو ما يعنى محرقة أخرى لليهود ، وظهر هذا الأتجاه قبل نكسة 67 وحتى الأن مازالت تستخدم إسرائيل سياسة التهويل بالأمكانيات العسكرية العربية.
والجدير بالذكر ، أنه بالرغم من غياب شارون من على الساحة ولكن خطته نفذت بجدارة، فالخطط الإسرائيلية ليست مرتبطة بقائد يمينى أو يسارى، ولكنها مرتبطة بسياسات الدولة العبرية الراسخة منذ نشأتها وما الأحزاب اليمنية أو اليسارية إلا ماكياج للتجميل فقط. ويرجع الفضل فى تنفيذ الخطة إلى واحدة من تلاميذ شارون وهى وزيرة الخارجية تسيبى ليفنى، التى تفوقت على اساتذتها فى ولائها للدولة العبرية وإنكار مصالحها الشخصية فى مقابل مصالح دولتها . لقد شاركت ليفنى فى رسم معالم خطة الأنسحاب الأسرائيلى من غزة وتزكية الخلافات الفلسطينية وتقريب وجهات النظر العربية الأسرائيلية ، وأصبحت ليفنى وجهاً إعلاميا كثيرا ما نشاهده على شاشات الفضائيات العربية . لم تكتفى بذلك ولكنها دشنت فكرة خطر وجود أول أمارة أسلامية فى قطاع غزة، مستغلة ذعر الحكومات العربية من جماعات الأسلام السياسى. لقد كللت جهودها بالنجاح بعد استيلاء حماس على غزة ، والذى كان بمثابة ناقوس خطر لمصر ينذر بإمكانية تكرار هذا السيناريو مع جماعة الأخوان المسلمين الأب الروحى لحركة حماس..
لن أخوض كثيرا فى تداعيات استيلاء حماس على القطاع أو الذعر من أمارة إسلامية عربية أو الحرب الأسرائيلية على غزة فى أواخر 2008 وبداية 2009 . ولكن يكفى ذكر أن القضية الفلسطينية اليوم لم تعد تتمحور حول حل الدولة الواحدة أو الدولتين أو حتى حدود 67، ولقد غابت القدس عن الأذهان ونسى العرب اللاجئين وجدار الفصل العنصرى ،و للأسف أصبحت محاور القضية الفلسطينية الرئيسية مشكلة دخول قافلة شريان الحياة من ميناء نوبيع أو ميناء العريش ومنع دخول مجموعة من النشطاء الأجانب لغزة عن طريق معبر رفح والجدار الفولاذى ما بين قطاع غزة ومصر. واليوم ، قتل قناص لجندى مصرى وجرح فلسطينيان على الحدود .
ما ذكرته ليس جديدا، بل ذكره عدد من المحللين من قبل ولكن فى غمرة النشوة بانتصار زائف نعجز عن رؤية الحقيقة ونساق إلى المذبح فى صمت .
فى النهاية ،لن أنزلق لهاوية الدفاع أو الأدانة ، الجميع ضحايا وجلادون فى الوقت ذاته، لقد جلدنا أنفسنا حينما تخلينا عن العقل وجلسنا على مقاعد المتفرجين نبتسم ببلاهة أو ننوح أو نستنكر بينما استلم الأسرائيليين زمام الأمور، لم نحاول تغيير قواعد اللعبة السياسية إلى صالح شعوب المنطقة العربية ، تحكمت الذاتية والمصالح الشخصية فى الأختيارات السياسية المصيرية، فتحولت قضية شعب اقتلع من أرضه وطرد من وطنه إلى مهترات ما بين حماس الفصيل الفلسطينى والحكومة المصرية . هل ستحل مشاكل قطاع غزة بدخول قافلة جالاوى سواء من نوبيع أو العريش ؟ هل ستتوقف الأعتداءات الأسرائيلية فى حالة وجود أو عدم وجود أنفاق ما بين غزة ومصر وبناء الجدار الفولاذى ؟ هل ستحل إشكاليات القدس واللاجئين وجدار الفصل العنصرى والتميز داخل الدولة العبرية ما بين العرب واليهود بأنقسام الشارع الفلسطينى وتأييد العرب لحكومة فتح أو حكومة حماس؟
أدرك مسئولية النظام المصرى والعالم أجمع تجاه الأزمة الأنسانية فى غزة، تجاه توفير الغذاء والدواء والمسكن لأبناء القطاع ، لا أحاول تجميل وجه على حساب الأخر، الجميع فى موقف لا يحسد عليه ، توجيه الأتهامات لن يحل الأشكاليات ولكن تحمل هذه المسئولية الملقاة على عاتق الجميع .
ردود الأفعال الكلامية لن تنهى المأساة الأنسانية فى غزة بل تساعد على تعقيد الأمور. ولكن الأخلاص فى العمل سواء كنا شعوب أو قيادات سياسية من أجل قضية عربية هى قضية فلسطين وليس من أجل مصالح شخصية. إذا ما توقفنا عن النضال من أجل نجاحات شخصية ساعتها ستكون الشعوب العربية قادرة على الأمساك بزمام الأمور وتغيير الواقع المرير فى الأراضى الفلسطينية . عندما يحدث ذلك سيظهر فجر اليوم التى تكون فيه الشعوب العربية قادرة على صناعة الأحداث وليس ردود أفعال .