الخميس، 22 أكتوبر 2009

أمى ... رحيل بلا وداع




مر الأسبوع الثالث منذ وصولى إلى هذه الواقعة فى وسط المحيط الهندى. على الرغم من أننى لن أعمل فى عطلة نهاية الأسبوع ، إلا أننى إستيقظت مبكرةً ، شعورا داخلى يحثنى على الأتصال بالقاهرة ، الساعة لم تكن تتعدى الخامسة فجراً هناك .. أحاول الأنشعال بأى شئ ولكن فى حوالى الساعة السابعة صباحا بتوقيت القاهرة اشتد على هذا الشعور بالرغبة فى سماع صوت أمى .. أعلم أنها فى المستشفى ومن الصعب الأتصال بها . طلبت رقم عائلتى .. لا أحد يرد .. أحاول الأتصال مرة أخرى بلا فائدة .
استجابت لدعوة زملائى لعب التنس وتناول العشاء سويا ، لقد كنت غائبة لشهرين بعد إصابتى فى حادث، لا أشعر بالرغبة فى الخروج ولكننى لا أريد رفض الدعوة .. أحاول اللعب ولكنى أكتشف أننى لن استطيع تسديد الكرة .. الأصابة أكبر من أن تتعافى وتعود إلى سابق عهدها فى شهرين ... أنسحب وأكتفى بالتفرج وتشجيع الجميع ...
الساعة الرابعة والنصف بتوقيت القاهرة الثامنة مساءا بتوقيت سريلانكا، مكالمة دولية .. أخيرا لأحظ أحد محاولات الأتصال .. صوت عادل على الطرف الأخر ، لا تستدعى هذه الأسئلة أوالحوار إجراء مكالمة دولية ... أحاول استكشاف ما يخفيه بلا فائدة .. ينهى المكالمة بعد بضعة إسئلة عن أحوالى ..
أجلس فى الخارج ، تتصاعد أصوات الموسيقا من داخل المنزل ، الجميع يستمتعون بوقتهم ولكنى فى وادى أخر .. أحاول معرفة ما حدث .. أمسك بالهاتف .. أتصل بجميع أرقام أفراد عائلتى بلا فائدة .. لا أحد يكترث بالرد .. أحاول التحكم فى أعصابى .. أريد العودة للمنزل ولكن فى هذه المدينة تتوقف الحياة بعد السادسة .. من المستحيل وجود تاكسى بالشارع فى هذه الساعة .. أخيرا سأعود للمنزل لقد أنتهى العشاء وحكايات موظفى المؤسسات الدولية ..
لم أنتظر دخولى من الباب .. فتحت باب الحديقة وأنا أطلب رقم أخى .. جاء صوته حزينا على الجانب الأخر .. صوت شيخ يتلو القرأن فى الخلفية .. " إيهاب .. ماذا حدث ؟" كانت كلماتى الأولى .. أكد لى أن الأمور على مايرام .. أمى تتعافى وسترجع البيت بعد إيام ، لكن توفى والد صديقه وهو الأن فى العزاء ..
أجرى أتصل أخر مع أختى ، تذكر أن حالة أمى فى تدهور على عكس ما قاله أخى .. أثار تناقضهما الشك فى قلبى .. هل ماتت أمى ؟ أحاول أبعاد هذه الفكرة عن ذهنى .. لا أنها بخير وستتعافى .. أتذكر أنها منذ عدة سنوات مرت بأزمة صحية مشابهة .. ولكنها تعافت ..
لا أستطيع النوم ، يفصل بينى وبين القاهرة جبال وصحارى وبحور .. وسيلتى الوحيدة للتواصل هى الهاتف .. على أن اصدق كلام عائلتى .. أنها بخير .. فكرة موتها تهيمن على عقلى .. فى النهاية ، استسلم لم حدث .. لا أستطيع تقرير حياتى أو موتى .. كيف يكون الأمر بالنسبة لأمى لا أستطيع وهبها الحياة أوإبعاد شبح الموت عنها .. أستسلم لنوم عميق ..
الساعة العشرة صباحا بتوقيت القاهرة ، أتصل مرة أخرى بعائلتى ..يأتينى صوت وفاء أبنة خالى عبر الأسلاك .. بدون أى مقدمات أسالها عما حدث.. تحاول الأسترسال فى المقدمات التى توحى بأن هناك كارثة حدثت .. تتوسل لى أن أحاول الهدوء والتماسك ولكنها لم تكن تدرى أن صمتها ورجائها يحرق كل قطرة فى دمى .. كما يحُرق وقود السيارات ... أحاول أن أبدو هادئة.. نبرات صوتها توحى بما حدث ولكنى أحاول أبعاد هذا الخاطر " لا يمكن أن ترحل أمى دون أن أحتضن يديها وأكون بجوارها فى أخر لحظاتها فى هذا العالم " لقد كنت فى القاهرة منذ 3 اسابيع .. كانت على ما يرام .. ماذا حدث ؟ .. لماذا أختارت أن ترحل حينما أكون غائبة ؟ رحمة بى أم عقاب على هجرى؟
بعد تلقى النبأ .. ظهرت جميع الوجوه .. أخوتى يتناولون التليفون واحد بعد الاخر .. أبناء أخوالى وعمومتى ... لماذا لم يردوا حينما حاولت الأتصال بهم ..
كان أول الأتصال بعدما وصلهم خبر الوفاة .. كانوا ساعتها يدخلون المستشفى .. شعروا أن الخبر بطريقة ما قد وصلنى ، لذلك لم يكونوا يريدون تأكيد أو نفى الخبر .. حتى يعرفوا مصدرى.. لم يفطنوا أن المصدر هو إحساسى وصلتى بأمى والتى لم تنتهى بالولادة أو الفطام أو السفر والبعد ألاف الأميال.. أرتباطى بها مثل أرتباط جنين بأمه.. أخبرتنى ذات مرة أنها كانت تشعر بخوفى وانقباضى داخل رحمها حينما كانت هى نفسها تخاف من شئ.. لماذا لم استمع لهذا النداء الذى كان يدفعنى للعودة للوطن .. كذبت نفسى وصدقت أكاذيب عائلتى .. لم تكن على ما يرام .. ربما كانت روحها تغادر الأرض حينما رغبت بالأتصال، ربما بعثت لى برسالة الوداع .. فشعرت روحى أن على أن أودع أمى حتى لو عبر سماعة الهاتف ولكنى تراجعت بسبب الوقت المبكر ، فرحلت دون وداع ولكن على وعد بلقاء قريب فى عالم أخر.
ألاف الأميال ، ولكن على التماسك أمام عائلتى ، ماذا أفعل وحيدة فى أرض غريبة .. أسوء شئ حدث لى وانا وحيدة بل قريب أو صديق يواسينى .. فقدت القدرة على الحداد أو على الكلام أو الصراخ .. كان على أن أتماسك ، لم يعد هناك شئ يحثنى على العودة .. ماتت ودفنت أمى دون أن أكون جانبها.. الجميع يسأل عن أحوالى .. أجيب "كيف أحواك.. أننى بخير لا تقلق " اتصل بى زميلى فى العمل وهو لا يدرى كيف يواسينى.. فأذا به اساله على حاله وأرد نفس الجمل التى كنت أرددها لأسرتى " أننى بخير لا تقلقوا.. المهم انت عامل ايه".

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق